الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)
.خاتمة في أغلاط البصر في القياس: فقد أتينا على تقسيم جميع أنواع أغلاط البصر، فحصرنا جميع العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط، ومثلنا في كل قسم من أقسام الأغلاط بمثال من الأمور الموجودة يظهر منها كيفية الغلط. وجميع ما ذكرناه من الأغلاط إنما هي أمثلة في كيفيات أغلاط البصر، وليست جميع أغلاط البصر، وإنما كل واحد من الأمثلة التي ذكرناها هو بمنزلة النوع من الأغلاط. وأغلاط البصر كثيرة، إلا أن جميع أغلاط البصر تجتمع تحت الأنواع التي فصلناها، وتنقسم إلى الأمثلة التي مثلناها. وعلل جميع أغلاط البصر على الإطلاق وأنواعها وأقسامها هي العلل التي حصرناها، ولا يوجد شيء من الأغلاط يتعدى العلل الثماني التي تقدم تفصيلها.وجميع ما ذكرنه من الأغلاط إنما هي أمثلة الأغلاط التي عللها مفردة ولكل واحد منها علة واحدة من العلل المحصورة التي من أجلها يعرض للبصر الغلط. وقد يعرض الغلط من اجتماع علتين وثلث وأكثر من العلل التي ذكرناها. وإذا عرض ذلك فإن البصر يكون مركباً. ومثال ذلك إذا لمح البصر مبصراً من المبصرات من بعد متفاوت، وكان ذلك المبصر متحركاً حركة على الاستقامة وعلى مسافة معترضة لكن حركة ليست في غاية السرعة، فإن البصر إذا لمح المبصر الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت ولم يلبث في مقابلته إلا زماناً يسيراً ثم التفت عنه فإنه لا يدرك حركته في الزمان اليسير وإن كان قد تمكن أن يدرك حركة ذلك المبصر في مثل ذلك القدر من الزمان من القرب. وذلك أن المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير إذا كانت على بعد قريب من البصر، ولم تكن حركة المبصر المتحرك في غاية البطء، فإنه قد يمكن أن يدركها البصر من ذلك البعد في مقدار ذلك الزمان، إذا لم تكن تلك المسافة في غاية الصغر. وإذا أدرك البصر المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير فهو يدرك حركة ذلك المتحرك في الزمان اليسير. وإذا كانت المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير على بعد متفاوت فإن البصر ربما لم يدرك تلك المسافة حق قدرها عند البعد المتفاوت.وإذا لم يدرك البصر المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير من البعد المتفاوت فإنه لا يدرك حركة ذلك المتحرك في ذلك القدر من الزمان من البعد المتفاوت. وإذا لم يدرك حركة المتحرك في ذلك القدر من الزمان فإنه يظن بذلك المتحرك أنه ساكن. وإذا ظن بالمتحرك أنه ساكن فهو غالط في سكونه. ويكون علة غلطه هو تفاوت البعد وقصر الزمان معاً، لأن البصر إذا ثبت في مقابلة ذلك المبصر وهو على البعد المتفاوت زماناً فسيحاً يقطع المبصر المتحرك فيه مسافة مقتدرة على ان يدركها البصر من ذلك البعد المتفاوت فإن البصر يدرك حركة ذلك المبصر من ذلك البعد المتفاوت، وإذا كان ذلك المبصر على مسافة قريبة من البصر فإن البصر يدرك حركته في الزمان اليسير إذا كان المتحرك يقطع في الزمان اليسير مسافة على أن يدركها البصر من ذلك البعد اليسير. وإذا كان ذلك فعلة إدراك البصر للمبصر المتحرك من البعد المتفاوت في الزمان اليسير ساكناً ليس هو البعد المتفاوت منفرداً وليس هو قصر الزمان منفرداً بل إنما هو تفاوت البعد مع قصر الزمان مجموعين.وكذلك إذا كان مبصر من المبصرات يتحرك حركة مستديرة، وكان ذلك المبصر مختلف الألوان، وكانت حركته حركة سريعة وليست في غاية السرعة، وكان المبصر الذي بهذه الصفة في مكان مغدر وليس بشديد الغدرة، ولمح البصر ذلك المبصر من بعد يسير فإنه يدرك حركته في حال لمحته من أجل اختلاف ألوانه مع قربه، لأن المتحرك إذا كان مختلف الألوان وكانت حركته مستديرة ولم يكن في غاية السرعة فإن البصر يدرك تبدل أجزائه بسرعة وإن لم يكن الضوء الذي عليه قوياً إذا كان قريب المسافة من البصر. ثم إن بعد البصر عن هذا المبصر حتى يصير على بعد مقتدر، ولمح البصر ذلك المبصر بعينه من البعد البعيد لمحة خفيفة، فليس يدرك حركته في تلك اللمحة للبعد المتفاوت الذي بينهما مع غدرة الموضع مع قصر زمان اللمحة، لأن القوس التي يقطعها كل جزء من المبصر المتحرك المستدير في زمان يسير تكون صغيرة المقدار، وإذا كان مقدار القوس التي يقطعها الجزء من المبصر صغيراً وكان الضوء الذي في ذلك المبصر يسيراً وكان البعد بعيداً لم يدرك البصر في اللمحة اليسيرة القوس الصغيرة التي يقطعها المتحرك المستدير في زمان تلك اللمحة.فإذا تأمل البصر المبصر الذي بهذه الصفة، وثبت في مقابلته زماناً فيه فسحة واستقصى تأمله، فإنه قد يدرك حركة المبصر من البعد البعيد لأن القوس التي يقطعها ذلك المبصر المتحرك في الزمان الفسيح تكون مقتدرة المقدار، فيمكن البصر أن يدركها من البعد البعيد مع غدرة الموضع إذا لم يكن الموضع شديد الغدرة. وإن قوي الضوء الذي في الموضع، ثم لمح البصر ذلك المبصر من البعد البعيد الذي لمحه منه أولاً ولم يدرك حركته، فإنه قد يمكن أن يدرك حركته إذا لمحه والضوء الذي فيه قوي، لأن القوس التي يقطعها ذلك المتحرك في زمان اللمحة التي لم يدركها البصر من أجل ضعف الضوء مع تفاوت البعد مع قصر الزمان قد يمكن أن يدركها البصر في الضوء القوي وإن كان البعد الذي يدركها منه بعيداً وكان الزمان قصيراً، لأن المبصرات الصغار التي لا يدركها البصر في المواضع المغدرة قد يدركها البصر في الضوء القوي من الأبعاد بعينها التي لم يدركها منها في المواضع المغدرة وفي مقادير الزمان بأعيانها التي لم يدركها منها في المواضع المغدرة.فإذا لمح البصر المبصر المتحرك دوراً من البعد البعيد في الضوء اليسير ولم يدرك حركته في حال لمحته فإنه يظنه في تلك الحال ساكناً. وإذا ظن البصر بذلك المبصر أنه ساكن، والمبصر مع ذلك متحرك، فهو غالط في سكونه. ويكون علة هذا الغلط هو تفاوت البعد مع قصر الزمان مع ضعف الضوء الذي في المبصر باجتماعها، لأن البصر قد يدرك حركة ذلك المبصر مع اجتماع علتين من هذه العلل. وذلك أنه يدرك حركته في حال لمحته مع ضعف الضوء الذي فيه إذا لمحه من مسافة قريبة، وقد يدرك حركته من البعد البعيد مع ضعف الضوء إذا ثبت في مقابلته زماناً يسيراً، وقد يدرك حركته من البعد البعيد في حال لمحته إذا كان الضوء الذي فيه قوياً.وإذا كان ذلك كذلك فالعلة التي من أجلها يدرك البصر المبصر المتحرك الذي بهذه الصفة ساكناً على الوجه الذي وصفناه إنما هو اجتماع العلل الثلاث التي وصفناها لا واحدة منها ولا لاجتماع علتين منها بل اجتماع العلل الثلث بمجموعها. فقد تبين مما ذكرناه أن غلط البصر قد يكون لاجتماع علتين وأكثر من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط، فغلط البصر قد يكون لعلة واحدة وقد يكون لأكثر من علة واحدة، إلا أن جميع العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط واحدة كانت أو أكثر من واحدة ليس تخرج عن العلل الثماني التي فصلناها.فأغلاط البصر في المعاني الجزئية تكون على ما مثلناه وفصلناه في جميع أنواع الأغلاط. وصر جميع المبصرات مركبة من المعاني الجزئية. فإذا عرض للبصر غلط في معنى من المعاني الجزئية التي في مبصر من المبصرات أو في أكثر من واحد من المعاني الجزئية التي في المبصرات فإنه يكون غالطاً في صورة ذلك المبصر. وإذا عرض للبصر غلط في صورة المبصر فإنما هو غالط في معنى من المعاني الجزئية التي في صورة ذلك المبصر أو أكثر من واحد من المعاني التي فيه. وليس يغلط البصر فيما يدركه من صورة مبصر من المبصرات إلا من غلطه في معنى من المعاني الجزئية التي في ذلك المبصر أو في عدة من المعاني الجزئية التي فيه لأن البصر ليس يدرك من المبصرات إلا المعاني الجزئية التي تحصل فيها. وكذلك إذا غلط البصر في معرفة المبصر فإنما يكون غلطه من تشبيه المعاني التي في ذلك المبصر أو بعض المعاني التي فيه بما يعرفه البصر من المعاني التي أدركها من قبل في ذلك المبصر بعينه أو في غيره من المبصرات التي من نوعه.وجميع الأغلاط في المعاني الجزئية إنما يكون غلطاً في مجرد الحس، أو غلط في المعرفة، أو غلط في القياس، أو غلطاً في مجموع هذه الثلاثة، أو غلط في نوعين منهما في اجتماعهما. وليس يعرض للبصر غلط في المعاني الجزئية يخرج عن هذه الأقسام. فأغلاط البصر في جميع ما يغلط فيه البصر من صور المبصرات قد يكون غلطاً في مجرد الحس، وقد يكون غلطاً في المعرفة، وقد يكون غلطاً في القياس، وقد يكون غلطاُ في الأنواع الثلاثة باجتماعها، وقد يكون غلطاً في نوعين منهما باجتماعهما. وليس يعرض للبصر غلط في صورة المبصر من المبصرات يخرج عن هذه الأقسام. وجميع الأغلاط في الأنواع الثلاثة التي ذكرناها ليس يكون إلا من أجل غلط البصر في المعاني الجزئية التي في صور المبصرات.فقد تبين أن جميع أغلاط البصر في جميع المعاني الجزئية إنما يكون للعلل التي حصرناها إما لعلة واحدة منها أو لأكثر من واحدة. فجميع أغلاط البصر في جميع ما يدركه من صور المبصرات وفي جميع ما يدركه من المعاني الجزئية التي في صور المبصرات على انفرادها تنقسم إلى الأقسام التي فصلناها، وتعرض للبصر على الأمثلة التي مثلناها، وتجتمع عللها تحت العلل التي حصرناها. وهذا حين نختم هذه المقالة.تمت المقالة الثالثة من كتاب أبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم في المناظر ووقع الفراغ من نسخها ليلة الأحد حادي عشر شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة. والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وسلامه.
|